سورة النور - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآية.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا الحسين ابن يحيويه قال: حدّثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي سفيان قالا: حدّثنا محمد بن يوسف الفريابي قال: حدّثنا قيس عن أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار فقالت: يا رسول الله إنّي أكون في بيتي على حال لا أُحبّ أن يراني عليها أحد والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل عليَّ، وإنّه لا يزال يدخل عليَّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فكيف أصنع؟ فنزلت هذه الآية {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} الآية. وقال بعض المفسّرين: حتى تستأنسوا أي تستأذنوا.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّه قال: إنّما هو حتى تستأذنوا ولكن اخطأ الكاتب، وكان أُبيّ بن كعب وابن عباس والأعمش يقرأونها كذلك حتّى تستأذنوا، وفي الآية تقديم وتأخير تقديرها: حتى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود وهو أن يقول: السلام عليكم أأدخل؟ روى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد الثقفي «أنّ رجلا استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أألجُ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعلّميه فإنّه لا يُحسن يستأذن فقولي له: تقول: السلام عليكم أأدخل؟ فسمعها الرجل فقالها، فقال: ادخل.».
وقال مجاهد والسدّي: هو التنحنح والتنخّم.
روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الخزاز عن ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عن زينب قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منها على أمر يكرهه.
عكرمة: هو التسبيح والتكبير ونحو ذلك.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن خرجة قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: حدّثنا عبد الله بن عمر بن أبان قال: حدّثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي أيوب الأنصاري قال: قلنا يا رسول الله ما الاستيناس الذي يريد الله سبحانه {حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} قال: يتكلّم الرجل بالتكبيرة التسبيحة والتحميدة، يتنحنح يؤذن أهل البيت.
وقال الخليل: الاستيناس: الاستبصار من قوله: {ا آنَسْتُ نَاراً} [طه: 10].
وقال أهل المعاني: الاستيناس: طلب الأُنس وهو أن ينظر هل في البيت أحد يؤذنه أنه داخل عليهم، يقول العرب: اذهب فاستأنس هل ترى أحداً في الدار؟ أي انظر هل ترى فيها أحداً؟ ويروى أنّ أبا موسى الأشعري أتى منزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال عمر: واحدة، فقال أبو موسى: السلام عليكم أأدخل؟ فقال عمر: ثنتان، قال أبو موسى: السلام عليكم أأدخل؟ ومرّ، فوجّه عمر بن الخطاب رضى الله عنه خلفه من ردّه فسأله عن صنيعه فقال: إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الاستيذان ثلاثة فإن أذنوا وإلاّ فارجع».
فقال عمر: لتأتيني بالبيّنة أو لاعاقبنّك، فانطلق أبو موسى فأتاه بمن سمع ذلك معه. وعن عطاء بن يسار أنَّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أستأذن على اَمّي؟ قال: «نعم»، قال: إنها ليس لها خادم غيري أفأستأذن كلمّا دخلت؟ قال: «أتحبّ أن تراها عريانة»؟ قال الرجل: لا، قال: «فاستأذن عليها».
وأخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا جرير بن عبد الحميد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اطّلع في بيت بغير إذنهم فقد حلّ لهم ان يفقأوا عينه».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شبّه قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا أبو بكر قال: حدّثنا ابن عيينة عن الزهري أنه سمع سهل بن سعد يقول: اطّلع رجل في حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه مدرىً يحكّ به رأسه، فقال: «لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك، إنّما الاستيذان من النظر».
{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ} أي في البيوت {أَحَداً} يأذن لكم في دخولها {فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} ولا تقفوا على أبوابهم ولا تلازموها {هُوَ} أي الرجوع {أَزْكَى} أطهر وأصلح {ا لَكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
فلمّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر: يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله سبحانه {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} بغير استيذان {فِيهَا مَتَاعٌ} منفعة {لَّكُمْ} واختلفوا في هذه البيوت ما هي؟ فقال قتادة: هي الخانات والبيوت المبنيّة للسائلة ليأووا إليها ويؤوا أمتعتهم إليها.
قال مجاهد: كانوا يضعون بطرق المدينة أقتاباً وأمتعة في بيوت ليس فيها أحد، وكانت الطرق إذ ذاك آمنةً فأحلّ لهم أن يدخلوها بغير إذن.
محمد بن الحنفيّة: هي بيوت مكة، ضحّاك: الخربة التي يأوي المسافر اليها في الصيف والشتاء، عطاء: هي البيوت الخربة، والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من الخلاء والبول، ابن زيد: بيوت التجّار وحوانيتهم التي بالأسواق، ابن جرير: جميع ما يكون من البيوت التي لا ساكن لها على العموم لأنّ الاستيذان إنما جاء لئلاّ يهجم على مالا يحب من العورة، فإذا لم يخف ذلك فلا معنى للاستيذان.
{والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ} يكفّوا {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} عن النظر إلى مالا يجوز، واختلفوا في قوله: {مِنْ} فقال بعضهم: هو صلة أي يغضّوا أبصارهم، وقال آخرون: هو ثابت في الحكم لأنّ المؤمنين غير مأمورين بغضّ البصر أصلا، وإنّما أُمروا بالغضّ عمّا لا يجوز.
{وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} عمّن لا يحلّ، هذا قول أكثر المفسّرين.
وقال ابن زيد: كلّ مافي القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلاّ في هذا الموضع فإنّه أراد الاستتار يعني: ويحفظوا فروجهم حتى لا ينظر إليها.
ودليل هذا التأويل إسقاط من {ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ} عليم {بِمَا يَصْنَعُونَ}.
أخبرني ابن فنجويه في داري قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا الحسن بن علي بن زكريا قال: حدّثنا أبو الربيع الزهراني قال: حدّثنا إسماعيل بن جعفر قال: حدّثنا عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن عبادة بن الصامت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اضمنوا لي ستّاً من أنفسكم اضمن لكم الجنة: اصُدقوا إذا حدّثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدّوا ما ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضّوا أبصاركم، وكفّوا أيديكم».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا عبد الوارث قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا عنبسة بن عبد الرَّحْمن قال: حدّثنا أبو الحسن أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النظر إلى محاسن المرأة سهم من نبال إبليس مسموم، فمن ردّ بصره ابتغاء ثواب الله عز وجل أبدله الله بذلك عبادة تسرُّه».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدَّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا سهل بن صالح الأنطاكي قال: حدّثنا أبو داود قال: حدّثنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي جعفر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يصلّي إذ مرّت به امرأة فنظر إليها وأتبعها بصره فذهب عيناه».
{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} عما لا يجوز {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} عمّا لا يحلّ، وقيل: ويحفظن فروجهن أي يسترنها حتى لا يراها أحد.
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ولا يظهرن لغير محرم زينتهن، وهما زينتان: أحداهما ما خفي كالخلخالين والقرطين والقلائد والمعاصم ونحوها، والأُخرى ما ظهر منها، واختلف العلماء في الزينة الظاهرة التي استثنى الله سبحانه ورخّص فيها فقال ابن مسعود: هي الثياب، وعنه أيضاً: الرداء، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] أي ثيابكم. وقال ابن عباس وأصحابه: الكحل والخاتم والسوار والخضاب، الضحّاك والأوزاعي: الوجه والكفّان، الحسن: الوجه والثياب.
روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلاّ وجهها ويدها إلى ههنا» وقبض على نصف الذراع، وإنّما رخّص الله سبحانه ورخّص رسوله في هذا القدر من بدن المرأة أن تبديها لأنّه ليس بعورة، فيجوز لها كشفه في الصلاة، وسائر بدنها عورة فيلزمها ستره.
{وَلْيَضْرِبْنَ} وليلقين {بِخُمُرِهِنَّ} أي بمقانعهن وهي جمع خمار وهو غطاء رأس المرأة {على جُيُوبِهِنَّ} وصدورهن ليسترن بذلك شعورهنّ وأقراطهنّ وأعناقهن.
قالت عائشة: يرحم الله النساء المهاجرات الأُوَل لمّا أنزل الله سبحانه هذه الآية شققن أكتف مروطهنّ فاختمرن به.
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الخفيّة التي أُمرن بتغطيتها، ولم يبح لهنّ كشفها في الصلاة وللأجنبيين، وهي ما عدا الوجه والكفّين وظهور القدمين {إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ} أي نساء المؤمنين فلا يحلّ لامرأة مسلمة أن تتجرّد بين يدي امرأة مشركة إلاّ أن تكون أَمة لها فذلك قوله سبحانه {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}.
عن ابن جريج: روى هشام بن الغار عن عبادة بن نُسيّ أنه كره أن تقبّل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها ويتأوّل أو نسائهن.
وقال عبادة: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح: أما بعد فقد بلغني أنَّ نساء يدخلن الحمّامات معهنّ نساء أهل الكتاب فامنع ذلك وحُل دونه.
قال: ثم إنّ أبا عبيدة قام في ذلك المقام مبتهلاً: اللهم أيّما امرأة تدخل الحمّام من غير علّة ولا سقم تريد البياض لوجهها فسوّد وجهها يوم تبيّض الوجوه.
وقال بعضهم: أراد بقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} مماليكهنّ وعبيدهنّ فإنّه لا بأس عليهن أن يظهرن لهم من زينتهنّ ما يظهرن لذوي محارمهنّ.
{أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال} وهم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ولا حاجة لهم في النساء ولا يستهوونهنَّ.
قال ابن عباس: هو الذي لا تستحيي منه النساء، وعنه: الأحمق العنّين.
مجاهد: الأبله الذي لا يعرف شيئاً من النساء، الحسن: هو الذي لا ينتشر زبه سعيد بن جبير: المعتوه، عكرمة: المجبوب، الحكم بن أبان عنه: هو المخنث الذي لا يقوم زبّه.
روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث، وكانوا يعدّونه من غير أُولي الإربة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال: إنّها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أرى هذا يعلم ما ههنا، لا يدخلنّ هذا عليكم فحجبوه.».
ابن زيد: هو الذي يتبع القوم حتى كأنه منهم ونشأ فيهم وليس له في نسائهم إربة، وإنما يتبعهم لإرفاقهم إياّه، والإربة والإرب: الحاجة يقال: أربتُ إلى كذا آرَبُ إرباً إذا احتجت إليه، واختلف القرّاء في قوله: {غَيْرِ} فنصبه أبو جعفر وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر والمفضل، وله وجهان:
أحدهما: الحال والقطع لأنّ التابعين معرفة وغير نكرة.
والآخر: الاستثناء ويكون {غَيْرِ} بمعنى إلاّ. وقرأ الباقون بالخفض على نعت التابعين.
{أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} أي لم يكشفوا عن عورات النساء لجماعهن فيطّلعوا عليها، والطفل يكون واحداً وجمعاً.
{وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} يعني ولا يحرّكُنها إذا مشين {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} يعني الخلخال والحلي {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً} من التقصير الواقع في أمره ونهيه وقيل: معناه راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة.


{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}
{أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} أي زوّجوا أيها المؤمنون مَن لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} وقرأ الحسن: من عبيدكم، والأيامى جمع الأيّم وهو مَن لا زوج له من رجل وامرأة يقال: رجل أيّم وامرأة أيّم وأيّمة، والفعل منه أمت المرأة تأيم أيمة أيوماً، وتأيّمت تأيّماً، قال الشاعر:
ألم تر أنّ الله أظهر دينه *** وسعد بباب القادسيّة معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة *** ونسوة سعد ليس منهن أيّم
وقال آخر:
فإن تنكحي أنكحْ وإنْ تتأيمّي *** وإنْ كنت أفتى منكم أتأيّم
وفسّر بعض الفقهاء الآية على الحتم والإيجاب فأوجب النكاح على من استطاعه، وتأوّلها الباقون على الندب والاستحباب وهو الصحيح المشهور والذي عليه الجمهور.
قال الشافعي رضي الله عنه: واجب للرجل والمرأة أن يتزوّجا إذا تاقت أنفسهما إليه لأنَّ الله جلَّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه أمر به ورَضيه وندب إليه، وبلغنا أنّ النبّي صلى الله عليه وسلم قال: «تناكحوا تكثروا فإنّي أُباهي بكم الأُمم حتى بالسقط».
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن أحبّ فطرتي فليستنَّ بسنّتي وهي النكاح، وقال: إنَّ الرجل ليُرفع بدعاء ولده من بعده».
قال الشافعي: ومن لم تُتق نفسه إلى ذلك فأحبّ إلىّ أن يتخلّى لعبادة الله عزَّ وجل.
وذكر الله سبحانه القواعد من النساء وذكر عبداً أكرمه فقال عزَّ من قائل {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} [آل عمران: 39] والحصور: الذي لا يأتي النساء. ولم يندبهم إلى النكاح، فدلَّ أنّ المندوب إليه من يحتاج إليه.
باب ذكر بعض ما ورد من الأخبار في الترغيب في النكاح:
أخبرنا أحمد بن أُبي قال: أخبرنا عبد الله بن إسحاق الجرجاني قال: حدّثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي قال: حدّثنا محمد بن يحيى الأزدي قال: حدّثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال: أخبرنا أشعث عن الحسن عن سمرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتّل.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الحديثي قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا محمد بن صالح بن ذريح قال: حدّثنا جبارة بن المغلّس قال: حدّثنا جندل عن ابن جريح عن أبي المغلّس عن أبي نجيح السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن كان له ما يتزوّج فلم يتزوج فليس منّا».
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرحي قال: حدّثنا أحمد بن يعقوب المقرى ابن أخي عوف قال: حدّثنا جبارة بن المغلس قال: حدّثنا مندل عن يحيى بن عبد الرَّحْمن عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أدرك له ولد وعنده ما يزوّجه فلم يزوّجه فأحدث فالإثم بينهما».
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن عبد الرَّحْمن الدقّاق قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا أبو يوسف الصيدلاني قال: حدّثنا خالد بن إسماعيل عن عبيد الله عن صالح مولى التومة قال: قال أبو هريرة: لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد للَقيت الله بزوجة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «شراركم عزّابكم».
وبإسناده عن صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوّج أحدكم عجّ شيطانه ياويله: عصم ابن آدم منّي بثلثي دينه».
وأخبرني الحسن بن محمد قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا أبو زكريا يحيى بن علي بن خلف القطان قال: حدّثنا الحسين بن محمد قال: حدّثنا محمد بن ربيعة الكلابي قال: حدّثنا محمد بن ثابت العقيلي عن هارون بن رئاب عن أبي نجيح السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مسكين مسكين رجل ليست له امرأة، مسكينة امرأة ليس لها زوج».
قالوا: يا رسول الله وان كانت غنيّة من المال؟
قال: «وإن كانت غنيّة من المال».
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن موسى قال: حدّثنا هشام بن عمار قال: حدّثنا حماد بن عبد الرَّحْمن قال: حدّثنا خالد بن الزبرقان عن سليمان بن حبيب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع لعنهم الله من فوق عرشه وأمّنت عليه ملائكته: الذي يحصر نفسه عن النساء فلا يتزوج ولا يتسرّى لئلاّ يولد له، والرجل يتشبّه بالنساء وقد خلقه الله ذكراً، والمرأة تتشبّه بالرجال وقد خلقها الله أُنثى، ومضلّل المساكين».
قال خالد: يعني الذي يهزأ بهم يقول للمسكين: هلّم أعطك، فإذا جاء يقول: ليس معي شيء، ويقول للمكفوف: اتّق الدابّة وليس بين يديه شيء، والرجل يُسئل عن دار القوم فيجهله.
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام البيروتي قال: حدّثني أحمد بن سعيد بن يعقوب قال: أخبرنا بقية ابن الوليد قال: حدّثني معاوية بن يحيى عن سليمان بن موسى عن مكحول عن عفيف ابن الحارث عن عطيّة بن بشر المازني قال: أتى عكاف بن وادعة الهلالي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عكاف ألك زوجة؟ قال: لا يا رسول الله، قال: ولا جارية؟ قال: لا. قال: وانت صحيح موسر؟ قال: نعم والحمد لله. قال: فإنّك إذاً بين إخوان الشياطين إمّا أن تكون من رهبان النصارى، وإمّا أن تكون مؤمناً فاصنع كما نصنع فإنّ من سنّتنا النكاح، شراركم عزّابكم وأراذل موتاكم عزّابكم، ما للشيطان في نفسه سلاح أبلغ من النساء ألا إنّ المتزوّجين هم المطهّرون المبرّؤون من الخنا، ويحك يا عكاف إنّهن صواحب داود وصواحب أيّوب وصواحب يوسف عليهم السلام وصواحب كرسُف.
قالوا: يا رسول الله ومن كرسُف؟
قال: رجل كان يعبد الله سبحانه على ساحل من سواحل البحر ثلاثين عاماً، يصوم النهار ويقوم الليل، لا يفتر من صيام ولا قيام، فكفر بالله العظيم من سبب امرأة عشقها وترك ما كان عليه من عبادة ربّه عزَّ وجل فتداركه الله سبحانه بما سلف منه، ويحك يا عكاف تزوّج فإنّك من المذنبين.
قال: زوّجني من شئت قبل أن أبرح.
قال: فإنّي قد زوّجتك على اسم الله كريمة بنت كلثوم الحميري».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن المظفر البزاز قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد ابن موسى بن النعمان بمصر قال: حدَّثنا علي بن عبد الرَّحْمن بن المغيرة قال: حدّثنا أبو صالح كاتب الليث قال: حدّثنا أبو يحيى بن قيس عن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى على أُمّتي مائة وثمانون سنة فقد حلّت العزبة والعزلة والترهّب على رؤوس الجبال».
فصل فيمن يستحبّ ويختار من النساء:
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الثقفي بقراءتي عليه في داري قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الجعد قال: حدّثنا عبد الله بن عمر القواريري قال: حدّثنا عمر بن الوليد قال: سمعت معاوية بن يحيى يحدّث عن يزيد بن جابر عن جبير بن نفير عن عياض بن غنم الأشعري قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عياض لا تزوّجنّ عجوزاً ولا عاقراً فإنّي مكاثر».
وأخبرني الحسن بن محمد قال: حدّثنا برهان بن علي الصوفي قال: حدّثنا أبو بكر مردك ابن أحمد البردعي قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا إسحاق بن بشر الكاهلي قال: حدّثني عبد الله بن إدريس المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تزوّجوا الأبكار فإنّهنّ أعذب أفواهاً، وأفتح أرحاماً، وأثبت مودةّ».
وبإسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اراد أحدكم أن يتزوّج المرأة فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها فإنَّ الشعر أحد الجمالين».
وبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تزوّجوا الزرق فإن فيهنّ يُمناً».
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدّثنا عبدان بن عبد الله بن عبد الحكم قال: حدّثنا عبد الله ابن صالح قال: حدّثنا محمد بن سليمان بن أبي كريمة قال: حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعظم نساء أُمّتي بركة أصبحهنّ وجهاً وأقلّهنّ مهراً».
فصل في الآداب الواردة في النكاح والزفاف:
أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال: أخبرنا أبو علي الشيباني قال: حدّثنا محمد بن رافع قال: حدّثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا عيسى بن ميمون عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «اعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليها بالدفاف وليولم أحدكم ولو بشاة».
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان وعبد الله بن يوسف قالا: حدّثنا يوسف بن أحمد بن كركان القرماسيني قال: حدّثنا أبو الزنباع روح بن الفرج قال: حدّثنا أبو سلمة البصري العتكى القاسم بن عمر قال: حدّثنا بشر بن إبراهيم الأنصاري عن الأوزاعي عن مكحول عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: حدَّثني معاذ بن جبل قال: شهدت ملاك رجل من الأنصار مع النبي صلى الله عليه وسلم فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وأملك الأنصاري ثمَّ قال: «على الألفة والخير والطير الميمون دَفّفوا على رأس صاحبكم، وأقبلت السلال فيها الفاكهة والسكّر فنُهب عليهم فأمسك القوم فلم ينتهبوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أزين الحلم ألا تنتهبون، فقالوا: يا رسول الله أنّك نهيتنا عن النهبة يوم كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما نهيتكم عن نهبة العساكر ولم أنهكم عن نهبة الولائم ثم قال: ألا فانتهبوا».
قال معاذ بن جبل: فوالله لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجُرّرنا ونُجرّره في ذلك النهاب.
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدَّثنا أبو العباس عبد الله بن أحمد بن حشيش البغدادي قال: حدّثنا عثمان بن معبد قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم عن سفيان بن عامر العامري عن صافية مولاتهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَسُّوا بالإملاك فإنّه أفضل في اليمن وأعظم في البركة».
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا طفران بن الحسين قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي داود السجستاني قال: حدّثنا أحمد بن يوسف بن سالم الازدي السلمي قال: حدّثنا حفص بن عبد الله عن إبراهيم بن طهمان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن إسحاق بن سهل بن أبي حنتمة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت عندي جارية من الأنصار في حجري فزوّجتها فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسمع غناء فقال: «يا عائشة ألا تغنّون عليها، فانَّ هذا الحىّ من الأنصار يحبّون الغناء».
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن ظهير بن ثمامة البزّار قال: حدّثنا أبو موسى بن المثّنى الزمر قال: حدّثنا حفص بن غياث عن ليث عن عطاء أنّ النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ عليه بعروس فقال: «لو كان مع هذا لهو».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن أبي قال: حدّثنا محمد بن علي بن سالم الهمذاني قال: حدّثنا الحسن بن الحسين الرازي الهسنخاني قال: حدّثنا سعيد بن منصور قال: حدّثنا مسكين بن ميمون قال: حدّثني عروة بن رويم قال: بينا عبد الرَّحْمن بن قرط ينعسّ بحمص إذ مرّت عروس وقد أوقدوا النيران، فضربهم بدرّية حتى تفرقوا عنها، فلمّا أصبح قعد على منبره وقال: إنّ أبا جندلة نكح فصنع جفنات من طعام فرحم الله أبا جندلة وصلّى على آبائه، ولعن الله أصحاب عروسكم أوقدوا النيران وتشبّهوا بأهل الشرك والله مطفئ نورهم يوم القيامة. {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن أحمد بن نصرويه قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدّثني أبو زرعة قال: حدّثنا إبراهيم بن موسى الفرّاء قال: أخبرنا مسلم بن خالد عن سعيد بن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التمسوا الرزق بالنكاح».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال: حدّثنا أبو يوسف محمد ابن سفيان بن موسى الصفّار بالمصّيصة قال: حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن ناصح قال: حدّثنا عبد العزيز الدراوردي عن ابن عجلان أنَّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الحاجة فقال: «عليك بالباءة»، وشكى رجل إلى أبي بكر رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الحاجة فقال: عليك بالباءة، وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه بعد أبي بكر فشكا إليه الحاجة فقال: عليك بالباءة، كلّ يريد قوله سبحانه {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. قال ابن عجلان: وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنه: ابتغوا الغنى في النكاح.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} عن الحرام {حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} ويوسّع عليهم من رزقه.
{والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} أي المكاتبة وهي أن يقول الرجل لعبده أو أَمته: قد كاتبتك على أن تعطيني كذا وكذا في نجوم معلومة على أنّك إذا أدّيت ذلك فأنت حرّ، فيرضى العبد بذلك فإن أدّى مال الكتابة بالنجوم التي سّماها كان حرّاً، وإن عجز عن أداء ذلك كان لمولاه أن يردّه إلى الرّقّ كما قال صلى الله عليه وسلم: «المكاتب عبد مابقي عليه درهم» وأصل الكلمة من الكتب وهو الضمّ والجمع، ومنه الكتيبة وكتب البغل وكتب الكتاب، فسمّي المكاتب مكاتباً لأنه يضم نجوم مال الكتابة بعضها إلى بعض.
{مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} اختلف الفقهاء في حكم هذه الآية فقال قوم: هو أمر حتم وإيجاب فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم منه خيراً إذا سأله ذلك بقيمته وأُكثر ولو كان بدون قيمته لم يلزمه، وهو قول عمرو بن دينار وعطاء، وإليه ذهب داود بن علي ومحمد ابن جرير من الفقهاء وهي رواية العوفي عن ابن عباس، واحتّج من نصر هذا المذهب بما روى قتادة أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عليه، فشكاه إلى عمر فعلاه بالدّرة وأمره بالكتابة، واحتجّوا أيضاً بأن هذه الآية نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزّى يقال له صبح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين فأدّاها وقتل يوم حنين في الحرب.
وروى عن عمر أنّه قال: هي عزمة من عزمات الله، من سأل الكتابة كوتب.
وقال الآخرون: هو أمر ندب واستحباب، ولا يلزم السيّد مكاتبة عبده سواء بذل له قيمته أو أكثر منها أو أقل، وهو قول الشعبي والحسن البصري، وإليه ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وسائر الفقهاء.
وأمّا قوله سبحانه {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} فاختلفوا فيه، فقال ابن عمر وابن زيد ومالك بن أنس: يعني قوّة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتب عليه، وإليه ذهب الثوري.
وروى الوالبي عن ابن عباس قال: إن علمت أنّ لهم حيلة ولا يلقون مؤونتهم على المسلمين. وقال الحسن ومجاهد والضحاك: مالاً، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، واستدلّوا بقوله: {إِن تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180].
قال الخليل: لو أراد المال لقال: إن علمتم لهم خيراً.
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا هارون بن محمد قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا يحيى الحماني قال: حدّثنا أبو خالدالأحمر عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي عن سلمان قال: قال له عبد: كاتبني، قال: لك مال؟ قال: لا، قال: تطعمني أوساخ الناس فأبى عليه، وقال إبراهيم وعبيدة وأبو صالح وابن زيد: يعني صدقاً ووفاء وأمانة، وقال طاوس وعمرو بن دينار: مالاً وأمانة.
وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في هذه الآية الاكتساب مع الأمانة، فأحبّ أن لايمتنع من مكاتبته إذا كان هكذا.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن عبد العزيز العثماني وأبو النضر إسحاق بن إبراهيم قال: حدّثنا يحيى بن حمزة قال: أخبرني محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: رجل خرج في سبيل الله سبحانه، ورجل تزوّج التماس الغنى عما حرّم الله عزّ وجلّ، ورجل كاتب التماس الأداء».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا هارون بن محمد بن هارون قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا يحيى الحماني قال: حدّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة في قوله سبحانه {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قال: إن أقاموا الصلاة. وقيل: هو أن يكون المكاتب بالغاً عاقلاً فأمّا المجنون والصبي فلا يصحّ كتابتهما لأنّهما ليسا من أهل الابتغاء، ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاث» الحديث.
وقال أبو حنيفة: يصحّ كتابة الصبي إذا كان مراهقاً مميّزاً بناءً على أصله إذا كان مراهقاً كيّساً حراً فأذن له وليُّهُ في التصّرف نفذ تصرّفه، كذلك السيّد مع عبده إذا كاتبه فقد أذن له في التصرّف فصحّت كتابته.
واختلف الفقهاء في مال الكتابة، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهُ: تصح الكتابة حالّة ومؤجلة لأنَّ الله سبحانه قال: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} ولم يشترط فيه أجلا ولأنّه عقد على عين فصحَّ حالاًّ ومؤجّلاً كالبيع.
وقال الشافعي: لا تصحّ الكتابة حالّة وإنّما تصحّ إذا كانت مؤجّلةً، وأقلّه نجمان.
{وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ} اختلفوا فيه فقال بعضهم: الخطاب للموالي وهو أن يحطّ له من مال كتابته شيئاً، ثم اختلفوا في ذلك الشيء فقال قوم: هو ربع المال وهو قول علىّ، وإليه ذهب الثوري.
روى شعبة عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرَّحْمن السلمي أنّه كاتب غلاماً له على ألف ومائتين وترك الربع وأشهدني ثم قال لي: كان صديقك يفعل هذا، يعني عليّاً كرم الله وجهه، وقد روى ذلك مرفوعاً.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش المقري قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن موسى قال: حدّثنا يوسف بن سعيد بن مسلم قال: حدّثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب يعني أبا عبد الرَّحْمن السلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ} قال: «ربع المكاتبة».
وقال آخرون: ليس فيه حدّ إنّما هو إليه، يحطّ عنه من مال كتابته شيئاً.
روى أسباط عن السدّي عن أبيه قال: كاتبتني زينب بنت قيس بن مخرمة وكانت قد صلّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعاً على عشرة آلاف فتركت لي ألفاً، وروى الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد مولى ابن أُسيد قال: كاتبني أبو أسيد على ثنتي عشرة مائة فجئته بها فأخذ منها ألفاً وردّ علىّ مائتين.
وقال نافع: كاتب عبد الله بن عمر غلاماً له يقال له شرقي على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع من آخر كتابته خمسه آلاف درهم.
قال سعيد بن جبير: وكان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أوّل نجومه مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته، ولكنّه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحبّ، وعلى هذا القول قوله: {وَآتُوهُمْ} أمر استحباب.
وقال بعضهم: معناه وآتوهم سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله: {وَفِي الرقاب} [التوبة: 60] وهو قول الحسن وزيد بن أسلم وابنه وعلى هذا التأويل هو أمر إيجاب.
وقال بريدة وإبراهيم: هو حثّ لجميع الناس على معونتهم.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد قال: حدّثني زهير عن عبد الله بن محمد ابن عقيل عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أعان مكاتباً في رقبته أو غازياً في عسرته أو مجاهداً في سبيله أظله الله سبحانه في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه».
وأخبرني ابن فنجوية قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدّثنا علي بن أحمد الواسطي قال: حدّثنا إسحاق بن منصور عن عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرَّحْمن الدالاني عن خارجة بن هلال عن أبي سعيد ورافع بن خديج وابن عمر قالوا: جاءنا غلام لعثمان رضي الله عنه يقال له كيّس فقال: قوموا إلى أمير المؤمنين فكلّموه أن يكاتبني فقلنا له: إنَّ غلامك هذا سألنا أن تكاتبه فقال: أخذته بخمسين ومائة يجيء بها وهو حر، قال: فخرجنا فأعانه كل رجل منّا بشيء قال: كونوا بالباب ثم قال: ياكيّس تذكر يوم عركت أُذنك، قلت: بلى يا سيّدي، قال: ألم أنهك أن تقول يا سيدي؟ قال: فلم يزل بي حتى ذكرت، قال: قم فخذ بأذني قال: فأبيت فلم يزل بي حتى قمت فأخذت بأُذنه فعركتها وهو يقول: شُدّ شدّ حتى إذا رآني قد بلغت ما بلغ منّي قال: حسبك ثم قال: واهاً للقضاء في الدنيا، أُخرج فأنت حرّ وما معك لك.
{وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء} الآية.
نزلت في معاذة ومُسيكة جاريتي عبد الله بن أُبي المنافق، كان يكرههما على الزنا بضريبة يأخذ منهما وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤاجرون إماءهم، فلمّا جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه، وإن يك شرّاً فقد آن لنا أن ندعه، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتل: نزلت في ستّ جوار لعبد الله بن أُبىّ كان يكرههنّ على الزنا ويأخذ أُجورهن وهنّ معاذة ومسيكة وأُميمة وعمرة وأروى وقتيلة، فجاءته إحداهنّ ذات يوم بدينار وجاءت أُخرى ببرد فقال لهما: ارجعا فازنيا فقالتا: والله لا نفعل قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنا، فأتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكتا إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وروى معمر عن الزهري أنّ عبد الله بن أُبي أسر رجلاً من قريش يوم بدر، وكان لعبد الله جارية يقال لها معاذة فكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة، فكانت تمتنع منه وكان ابن أُبىّ يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل للقرشي فيطلب فداء ولده، فأنزل الله سبحانه {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ} إماءكم {عَلَى البغآء} أي الزنا.
{إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} يعني إذ وليس معناه الشرط لأنه لا يجوز إكراههنّ على الزنا إن لم يردن تحصُّناً، ونظيره قوله سبحانه {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] وقوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] أي إذ، وقوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] يعني إذ شاء الله والتحصّن: التعفّف.
وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها {وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصّناً} ثم قال: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ} بعد ورود النهي {فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} لهنّ {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والوزر على المكره، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: لهنّ والله لهن.
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً} خبراً وعبرة {مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}.


{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)}
{الله نُورُ السماوات والأرض}.
قال ابن عباس: الله هادي أهل السموات والأرض لا هادي فيهما غيره، فهم بنوره إلى الحقّ يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون وليس يهتدي ملك مقرّب ولا نبىّ مرسل إلاّ بهدى منه.
الضحّاك والقرظي: منوّر السموات والأرض.
مجاهد: مدبر الأُمور في السموات والأرض.
أُبي بن كعب وأبو العالية والحسن: مزيّن السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزيّن الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين.
وقال بعضهم: يعني الأنوار كلّها منه كما يقال: فلان رحمة وسخطة وهو لا يكون في نفسه رحمة ولا سخطة وإنما يكون منه الرحمة والسخطة.
وقال بعض أهل المعاني: أصل النور هو التبرئة والتصفية، يقال: امرأة نوار نساء نوار إذا كنّ متعرّيات من الريبة والفحشاء، قال الشاعر:
نوارُ في صواحبها نوارُ *** كما فاجاك سربٌ أو صوارُ
فمعنى النور هو المنزّه من كل عيب.
وقال بعض العلماء: النور على أربعة أوجه: نور متلألئ، ونور متولّد، ونور من جهة صفاء اللون، ونور من جهة المدح، فالنور المتلألئ مثل قرص الشمس القمر والكواكب وشعلة السراج، والمتولد هو الذي يتولد من شعاع الشمس القمر والسراج فيقع على الأرض فيستنير به، والذي هو من صفاء اللون مثل نور اللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر، وكلّ شيء له نور صاف، والذي هو من جهة المدح قول الناس: فلان نور البلد وشمس العصر، قال الشاعر:
فإنّك شمس والملوك كواكب *** إذا ما بدت لم يبد منهنّ كوكب
وقال آخر:
قمر القبائل خالد بن يزيد ***
وقال آخر:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة *** فقد سار منها نورها وجمالها
ويجوز أن يقال: الله سبحانه نور من جهة المدح؛ لأنه واجد الأشياء ونور جميع الأشياء منه دون سائر الأوجه؛ لأنّ النور المحسوس الذي هو ضدّ الظلمة لا يخلو من شعاع وارتفاع وسطوع ولموع وهذه كلّها منفيّة عن الله سبحانه لأنها من أمارات الحدث.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: لله يا نور إلاّ أن يضمّ إليه شيء كما لا يجوز أن يقال: يا بديع إلاّ أن يضمّ إليه شيء كما قال الله سبحانه {بَدِيعُ السماوات والأرض} [البقرة: 117] {نُورُ السماوات والأرض}.
وقرأ علي بن أبي طالب: الله نور السموات والأرض على الفعل.
{مَثَلُ نُورِهِ} اختلفوا في هذه الكناية فقال بعضهم: هي عائدة إلى المؤمن أي مثل نوره في قلب المؤمن حيث جعل الإيمان والقرآن في صدره.
روى الربيع عن أبي العالية عن أُبي بن كعب في هذه الآية قال: بدا بنور نفسه فذكره ثمَّ ذكر نور المؤمن فقال: {مَثَلُ نُورِهِ} وهكذا كان يقرأ أُبي: مثل نور من آمن به، وقال ابن عباس والحسن وزيد بن أسلم وابنه: أراد بالنور القرآن، وقال كعب وسعيد بن جبير: هو محمد صلى الله عليه وسلم ومثله روى مقاتل عن الضحاك، أضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلاً، وروى عطيّة عن ابن عباس قال: يعني بالنور الطاعة، يسمّي طاعته نوراً ثمَّ ضرب لها مثلا.
{كَمِشْكَاةٍ} قال أهل المعاني: هذا من المقلوب أي كمصباح في مشكوة وهي الكوّة التي لا منفذ لها، وأصلها الوعاء يجعل فيها الشيء، والمشكاة: وعاء من أدم يُبرَّد فيه الماء، وهي على وزن مفعلة كالمقراة والمصفاة. قال الشاعر:
كأنّ عينيه مشكاتان في حجر *** قيضا اقتياضاً بأطراف المناقير
وقيل: المشكوة: عمود القنديل الذي فيه الفتيلة.
وقال مجاهد: هي القنديل.
{فِيهَا مِصْبَاحٌ} أي سراج وأصله من الضوء، ومنه الصبح، ورجل صبيح الوجه مصبّح إذا كان وضيئاً، وفرّق قوم بين المصباح والسراج فقال الخليل: المصباح: نفس السراج وقيل: السراج أعظم من المصباح لأنّ الله سبحانه سمّى الشمس سراجاً فقال: {سِرَاجاً وَهَّاجاً} [النبأ: 13] و{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} [الفرقان: 61] وقال في غيرها من الكواكب {وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} [فصلت: 12].
{المصباح فِي زُجَاجَةٍ} قرأ نصر بن عاصم: زجاجة بفتح الزاي، الباقون بضمّه.
قال الأخفش: فيها ثلاث لغات: ضمّ الزاي وفتحه وكسره.
{كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي ضخم مضيء، ودراريّ النجوم عظامها، واختلف القرّاء فيه فقرأ أبو عمرو والكسائي مكسورة الدال مهموزة الياء ممدودة وهو من قول العرب: درأ النجم إذا طلع وارتفع، ومن مكان إلى آخر رجع، وإذا انقضّ في اثر الشيطان فأسرع، وأصله من الرفع، ووزنه من الفعل فعيل، وقرأ حمزة وأبو بكر مضمومة الدال مهموزة ممدودة.
قال أكثر النحاة: هي لحن لأنه ليس في الكلام فُعّيل بضم الفاء وكسر العين.
قال أبو عبيد: وأنا ارى لها وجهاً وذلك أنه درّو على وزن فُعّول من درأت مثل سبّوح وقدوّس ثمَّ استثقلوا كثرة الضمّات فيه فردوا بعضها إلى الكسرة كما قالوا عتيّاً وهو فعول من عتوت.
وقال بعضهم: هو مشتق على هذه القراءة من الدراة وهي البياض ويقال: منه ملح دَراني، وقرأ سعيد بن المسيّب وأبو رجاء العطاردي بفتح الدال وبالهمز.
قال أبو حاتم: هو خطأ لأنّه ليس في الكلام فعيل وإن صحّ منهما فهما حجّة، وقرأ الباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز، نسبوه إلى الدُرّ في صفائه وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، ثمَّ قال أبو عبيد: وإنما اخترنا هذه القراءة لعلل ثلاث:
إحداها: ما جاء في التفسير أنه منسوب إلى الدُرّ لبياضه.
والثانية: للخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّ أهل الجنة ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الدرّي في أُفق السماء وإنّ أبا بكر وعمر منهم وأنعما.
والثالثة: إجماع أهل الحرمين عليها.
{يُوقَدُ} اختلف القرّاء فيه أيضاً فقرأ شيبة ونافع وأيوب وابن عامر وعاصم برواية حفص بياء مضمومة يعنون المصباح، وقرأ حمزة والكسائي وخلف برواية أبي بكر بتاء مضمومة أرادوا الزجاجة، وقرأ بن محيص بتاء مفتوحة وتشديد القاف ورفع الدال على معنى تتوقد الزجاجة، وقرأ الآخرون: بفتح التاء والقاف والدال على المضيء يعنون المصباح.
{مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}.
قال عكرمة وجماعة: يعني لا يسترها من الشمس جبل ولا واد، فإذا طلعت الشمس أصابتها وإذا غربت أصابتها، فهي صاحبة للشمس طول النهار وليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت، ولا هي غربية وحدها فلا تصيبها الشمس بالغداة إذا طلعت، بل تأخذ حظّها من الأمرين، وإذا كان كذلك كان أجود وأضوأ لزينتها.
وقال السدىّ وجماعة: يعني ليست في مقنوة لا تصيبها الشمس ولا هي بارزة للشمس لا يصيبها الظل، فهي لم يضرّها الشمس ولا الظلّ.
وقال بعضهم: هي معتدلة ليست من شرق فيلحقها الحرّ، ولا في غرب فيضرّ بها البرد وهي رواية ابن ظبيان عن ابن عباس.
وقال ابن زيد: هي شاميّة لأنّ الشام لا شرقي ولا غربي، تقول: هي شرقيّة وغربيّة وهذا كقولك: فلان لا مسافر ولا مقيم، وليس هذا بأبيض ولا أسود إذا كان له من كلا الأمرين قسط ونصيب، قال الشاعر:
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم *** ولم تكثر القتلى بها حين سُلّت
يعني فعلوا هذا.
وقال الحسن: ليس هذه الشجرة من شجر الدنيا، ولو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية، وإنّما هو مثل ضربه الله سبحانه لنوره، وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا لأنها بدل من الشجرة فقال: {زَيْتُونَةٍ} وإنما خصّ الزيتونة من بين سائر الاشجار أنّ دهنها أضوأ وأصفر.
وقيل: لأنّه يورق غصنها من أوله إلى آخره ولا يحتاج دهنه إلى عصّار يستخرجه.
وقيل: لأنّها أول شجرة نبتت من الدنيا، وقيل: بعد الطوفان، وقيل: لأنّ منبتها منزل الأنبياء والأولياء والأرض المقدّسة، وقيل: لأنّهُ بارك فيها سبعون نبيّاً منهم إبراهيم عليه السلام قال: لذلك قال: {مُّبَارَكَةٍ}.
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ في داري قال: حدّثنا عبد الله ابن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي قال: حدّثني هاشم ابن القاسم الحراني قال: حدّثنا يعلى بن الأشدق عن عمّه عبد الله بن حراد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهَّم بارك في الزيت والزيتون، اللهّم بارك في الزيت والزيتون».
وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا أبو شعيب الحراني قال: حدّثني أحمد بن عبد الملك قال: حدّثنا زهير قال: حدَّثنا عبد الله بن عيسى عن عطاء عن أبي أُسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا الزيت وادّهنوا به فإنّه من شجرة مباركة».
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيق قال: سمعت أبي يقول: حدّثنا أبو حمزة عن جابر عن أبي الطفيل عن عبد الله بن ثابت الأنصاري قال: دعا بَنِيه ودعا بزيت فقال: ادهنوا رؤوسكم، فقالوا: لا ندهن رؤوسنا بالزيت قال: فأخذ العصا وجعل يضربهم ويقول: أترغبون عن دهن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وحدّثنا عبد الله بن يوسف بن ماموله قال: أخبرنا محمد بن عمر بن الخطاب الدينوري قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن سنان قال: حدّثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بهذه الشجرة المباركة زيت الزيتون فتداووا به فإنّه مصحّة من الباسور».
ثمَّ قال سبحانه {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء} من صفائه وضيائه. {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} قيل: أن تصيبه نار، واختلف العلماء في معنى هذا المثل والممّثل وفي المعنيّ بالمشكاة والزجاجة والمصباح، فقال قوم: هذا مثل ضربه الله سبحانه لنبّيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال له: حدّثني عن قوله سبحانه وتعالى {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} الآية فقال كعب: هذا مثل ضربه الله سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم فالمشكاة صدره، والزجاجة قلبه، والمصباح فيه النبوّة، توقد من شجرة مباركة وهي شجرة النبوّة، يكاد نور محمد وأمره يتبّين للناس ولو لم يتكلّم أنّه نبىّ كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسَسه نار.
أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: حدّثنا أبو عثمان البصري قال: حدّثنا أحمد بن سلمة قال: حدّثنا الحسين بن منصور قال: حدّثنا أبان بن راشد الحرزي قال: حدّثنا الوراع بن نافع عن سالم عن ابن عمر في هذه الآية قال: المشكاة جوف محمد، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعل الله فيه، لا شرقية ولا غربية لا يهودي ولا نصراني، توقد من شجرة مباركة إبراهيم، نور على نور النور الذي جعل الله في قلب إبراهيم كما جعل في قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن كعب القرظي: المشكوة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، المصباح محمد صلى الله عليه وسلم سمّاه الله مصباحاً كما سمّاه سراجاً فقال عزَّ من قائل {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 46] {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} وهي إبراهيم، سمّاه مباركاً لأنَّ أكثر الأنبياء كانوا من صلبه، لا شرقية ولا غربية يعني إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً، وإنّما قال ذلك لأنّ اليهود تصلّي قِبل المغرب والنصارى قِبل المشرق {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يعني تكاد محاسن محمد تظهر للناس قبل أن أُوحي إليه {نُّورٌ على نُورٍ} أي نبيّ من نسل نبيّ.
وروى مقاتل عن الضحّاك قال: شبّه عبد المطّلب بالمشكاة وعبد الله بالزجاجة والنبي صلى الله عليه وسلم بالمصباح، كان في صلبهما فورث النبوّة من إبراهيم عليه السلام {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} بل هي مكيّة لأنّ مكة وسط الدنيا.
ووصف بعض البلغاء هذه الشجرة فقال: هي شجرة التُقى والرضوان وشجرة الهدى والإيمان شجرة أصلها نبوّة، وفرعها مروّة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبرئيل وميكائيل.
وقال آخرون: هذا مَثَل ضربه الله سبحانه للمؤمن.
روى الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أُبي بن كعب قال: هذا مثل المؤمن، فالمشكاة نفسه، والزجاجة صدره، والمصباح ما جعل الله سبحانه من الإيمان والقرآن في قلبه، توقد من شجرة مباركة وهي الإخلاص لله وحده لا شريك له، فمثله مثل شجرة التفَّ بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت، وكذلك المؤمن قد أُجير من أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها، فيثبته الله تعالى فيها، فهو بين أربع خلال: إن أُعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات.
ثمَّ قال: {نُّورٌ على نُورٍ} فهو ينقلب في خمسة من النور: فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة.
وقال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسّه النار، فإن مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه كما يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدىً ونوراً على نور كقول إبراهيم عليه السلام قبل أن تجيئه المعرفة {قَالَ هذا رَبِّي} حين رأى الكوكب من غير أن أخبره أحد أنّ له ربّاً، فلمّا أخبره الله أنّه ربّه ازداد هدىً على هدىً ثم قال: {نُّورٌ على نُورٍ} يعني إيمان المؤمن وعمله.
وقال الحسن وابن زيد: هذا مَثَل للقرآن في قلب المؤمن، فكما أنّ هذا المصباح يُستضاء به وهو كما هو لا ينقص فكذلك القرآن يُهتدى به ويؤخذ به ويعمل به، فالمصباح هو القرآن، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي.
{يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} يقول: تكاد حجّة القرآن تتّضح وإن لم تُقرأ، وقيل: تكاد حجج الله على خلقه تضيء لمن فكّر فيها وتدبّرها ولو لم ينزل القرآن.
{نُّورٌ على نُورٍ} يعني أنّ القرآن نور من الله يخلقه مع ما قد أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن فازدادوا بذلك نوراً على نور.
ثمَّ أخبر أنّ هذا النور المذكور عزيز فقال عزَّ من قائل {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} تقريباً للشيء الذي أراده إلى الأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك على الأنام {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ}.
ثمَّ قال عزَّ من قائل {فِي بُيُوتٍ} نظم الآية: ذلك المصباح في بيوت ويجوز أن يكون معناه: توقد في بيوت وهي المساجد، عن أكثر المفسّرين.
أخبرني ابن فنجويه الدينوري قال: حدّثنا ابن حنش المقري قال: حدّثنا محمد بن أحمد ابن إبراهيم الجوهري قال: حدّثنا علىّ بن أشكاب قال: حدّثنا محمد بن ربيعة الكلابي عن بكير ابن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: المساجد بيوت الله عزّ وجلّ في الأرض، وهي تضيء لأهل السماء كما تضئ النجوم لأهل الأرض.
وقال عمرو بن ميمون: أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: المساجد بيوت الله وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها.
وأخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدّثنا عبيد الله بن ثابت الحريري قال: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ قال: حدّثنا أبو أُسامة عن صالح بن حيّان عن ابن أبي بريدة في قوله سبحانه {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} الآية. قال: إنّما هي أربع مساجد لم يبنها إلاّ نبيّ: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة، وبيت المقدس بناه داود وسليمان، ومسجد المدينة بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء أُسّس على التقوى، بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري قال: حدّثنا أبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي الرازي قال: حدّثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني بالكوفة قال: حدّثنا المنذر بن محمد القابوسي قال: حدَّثني الحسين بن سعيد قال: حدّثني أبي عن أبان بن تغلب عن نفيع بن الحرث عن أنس بن مالك وعن بريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} إلى قوله: {وَالأبْصَارُ} فقام رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: «بيوت الأنبياء».
قال: فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها-لبيت عليّ وفاطمة-؟
قال: «نعم من أفاضلها».
الصادق: بيوت النبي صلى الله عليه وسلم السدّي: المدينة.
وأولى الأقوال بالصواب أنّها المساجد لدلالة سياق الآية على أنها بيوت بنيت للصلاة والعبادة.
فإن قيل: ما الوجه في توحيده المشكاة والمصباح وجمع البيوت، لا يكون مشكاة واحدة إلاّ في بيت واحد؟.
قلنا: هذا من الخطاب المتلوّن الذي يفتح بالتوحيد ويختم بالجمع كقوله سبحانه {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} ونحوها، وقيل: رجع إلى كلّ واحد من البيوت، وقيل: هو مثل قوله سبحانه {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} [نوح: 16] وإنّما هو في واحدة منها.
{أَن تُرْفَعَ} أي تبنى عن مجاهد نظيره قوله سبحانه {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] وقال الحسن: تعظيم، {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} قال ابن عباس: يتلى فيها كتابهُ، {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} قرأ قتادة وأشهب العقيلي ونصر بن عاصم الليثي وابن عامر وعاصم بفتح الباء على غير تسمية الفاعل.
ثم قال: {رِجَالٌ} أي هم رجال كما يقال: ضرب زيد وأكل طعامك فيقال: من فعل؟ فيبيّن فيقول: فلان، وفلان والوقف على هذه القراءة عند قوله: {والآصال}. وقرأ الآخرون بكسر الباء جعلوا التسبيح فعلاً للرجال.
قال ابن عباس: كلّ تسبيح في القرآن صلاة يدلّ عليه قوله سبحانه {بالغدو والآصال} أي بالغداة والعشىّ.
قال المفسّرون: أراد الصلوات المفروضة، فالصلاة التي تؤدّى بالغدوّ صلاة الفجر، والتي تؤدّى في الآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأنّ اسم الأصيل لجميعها.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا عمير بن مرداس قال: حدّثنا إسماعيل بن أبي أُويس قال: حدّثنا عبد الرَّحْمن بن زيد عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد ويوثره على ما سواه إلاّ وله عند الله نزل معدّله في الجنّة كلّما غدا وراح، كما لو أنّ أحدكم زارهُ من يحبّ زيارته في كرامته».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحسني عن إبراهيم المدني عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن غدا إلى المسجد وراح ليتعلّم خيراً أو يعلّمه كان كمثل المجاهد في سبيل الله رجع غانماً، ومن غدا إليه لغير ذلك كان كالناظر إلى الشيء ليس له، يرى المصلين وليس منهم، ويرى الذاكرين وليس منهم».
ثمَّ وصفهم فقال: {رِجَالٌ} قيل: وجه تخصيص الرجال بالذكر في هذه البيوت أنّه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المساجد {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} قال أهل المعاني: إنّما خصّ التجارات لأنّها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلوات وسائر الطاعات {وَلاَ بَيْعٌ} إن قيل: إنّ التجارة اسم يقع على البيع والشراء، فما معنى ضم ذكر البيع إلى التجارة؟ فالجواب عنه ما قال الواقدي أنّه أراد بالتجارة الشراء نظيره قوله سبحانه {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً} [الجمعة: 11] يعني الشراء.
{عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة} أي إقامة الصلاة فحذف الهاء الزائدة لأجل الإضافة، لأنّ الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد فاستغنوا بالمضاف إليه من الهاء إذ كانت الهاء عوضاً من الواو، ولأنّ أصل الكلمة أقومت إقواما فاستثقلوا الضمّة على الواو فسكّنوها فاجتمع حرفان ساكنان فأسقطوا الواو ونقلوا حركته إلى القاف، وأبدلوا من الواو المحذوفة هاء في آخر الحرف كالتكثير للحرف كما فعلوا في قولهم: عدة وزنة وأصلها وعدة ووزنة، فلمّا أُضيفت حذفت الهاء وجعلت الإضافة عوضاً منها، كقول الشاعر:
إنّ الخليط أجدّوا البين وانجردوا *** وأخلفوك عِدَ الأمر الذي وعدُوا
أراد: عِدَة الأمر فأسقط الهاء منها لما أضافها.
{وَإِيتَآءِ الزكاة} المفروضة عن الحسن.
وقال ابن عباس: الزكاة إخلاص الطاعة لله سبحانه وتعالى. قال ابن حيّان: هم أهل الصفّة.
وأخبرني ابن فنجويه قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا جعفر بن سليمان قال: أخبرني عمرو بن دينار مولى لآل الزبير عن سالم عن ابن عمر أنّه كان في السوق فأُقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد فقال ابن عمر: فيهم نزلت {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}.
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري قال: حدّثنا أبو سعيد أحمد بن عمر بن حبيش الرازي قال: حدّثنا علي بن طيفور النسائي قال: حدّثنا قتيبة قال: حدّثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي حجير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ للمساجد أوتاداً الملائكة جلساؤهم يتفقّدونهم، وإن مرضوا عادوهم وإن كانوا في حاجة أعانوهم».
وقال: جليس المسجد على ثلاث خصال: اخ مستفاد، أو كلمة محكمة، أو رحمة منتظرة.
{يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب} من هوله بين طمع في النجاة وحذر من الهلاك.
{والأبصار} أيّ ناحية يُؤخذ بهم أذات اليمين أم ذات الشمال؟ ومن أين يؤتون كتبهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟ وذلك يوم القيامة.
{لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} يعني أنّهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ} أي بأحسن {مَا عَمِلُواْ}.
{وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ} ما لم يستحقّوه بأعمالهم {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

1 | 2 | 3